التربية الإيمانية

بسم الله الرحمن الرحيم

فضيلة تدريس القرآن:

إن تدريس كتاب الله من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربّه ومولاه، حيث إن شرف العلم بشرف المعلوم، والمعلوم هنا هو كتاب الله الذي أنزله على رسوله الأمين بلسان عربي مبين.

وبذلك يعد التدريس من أشرف المهن وأهمها، فهو رسالة الأنبياء والرسل والمصلحين على مر التاريخ، والذي يتولى هذه المهنة هم ورثة الأنبياء. وعليه فإن رسالة العلم رسالة عظيمة القدر، يتم من خلالها تغذية الفكر، وزيادة الرصيد المعرفي، وتربية الأجيال على المبادئ والقيم الإسلامية. 

مجالات تدريس القرآن الكريم:

إن عملية التدريس هي المهمة الأساسية للمعلم بشكل عام، ولمعلم القرآن الكريم بشكل خاص، ولما كان المعلم يركز على جوانب الحفظ والتسميع دون العناية بالمهارات الأخرى، والتركيز على المحتوى دون الطريقة؛ تطلّب هذا بيانَ المنطلقات الأساسية التي يجب أن يراعيَها معلّم القرآن في الحلقات القرآنية، بحيث يكون ملمًّا بكل ما له علاقة بهذا الكتاب الخالد، من حفظ، وتفسير، ومراجعة، مع مراعاة المعارف التربوية، والاستراتيجيات والمهارات التعليمية، والكفايات التدريسية المصاحبة لعملية التدريس في بيئة الحلقات والمدارس القرآنية.

المشاريع القرآنية ما يراد منها:

المشاريع التي يراد منها خدمة كتاب الله صغيرةَ الحجم كانت أو كبيرةً، لا بد أن تكون واضحة الرؤية، ومحددة الهدف، بناء على معطيات حقيقية، وإحصاءات رقمية. لدى القائمين عليها تصورٌ عما تؤول إليه الحال بتنفيذها، فهي ليست مشاريع يتم الاتفاق عليها بناء على مؤثرات عاطفية أو تقليدية، أو محاكاة لقوم آخرين لديهم الفكرة نفسها، بل هي مشاريع ذات رؤية شرعية مؤصلة، تقوم على عمل إداري منظّم، وتلبي حاجات الأمة الحقيقية، كما أنها مشاريع متينة تليق بكتاب الله عز وجل، حيث إنّ كل مشروع قرآني قام في عصر الخلافة كان واضح الرؤية والأهداف.

التعليم والتربية:

هناك فارق كبير بين التعليم والتربية، فهدف التعليم هو إيصال المعلومة إلى المتعلم، واستيعابه وفهمه لها، دون النظر إلى تطبيقه أو عدم تطبيقه لمقتضاها.

أما هدف التربية فهو إيصال المعلومة مع الممارسة المستمرة لمقتضاها، وما تدل عليه في الواقع العملي، حتى تنشئ في ذات المتلقي أثرًا دائمًا ينتج عنه تغيُّر في سلوكه. فلا تكفي المعرفة النظرية بالقيم والأخلاق لكي تُصبح واقعًا ملموسًا في حياة الفرد، بل لابد من أن يتربى عليها، ويمارسها مرات ومرات.

لماذا ندعو إلى التربية الايمانية في الحلقات؟

لأنها منهج رباني ارتضاه الله تعالى لنبيه ﷺ، وذكره في معرض امتنانه على المؤمنين، فقال عزّ وجلّ: (لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍ مُّبِينٍ)

فلم يكن النبي ﷺ مقتصرًا في رسالته على تلاوة ما نزل من كتاب الله ليحفظه أصحابُه الكرام، بل كان شارحًا لمراده، مبيّنًا لأحكامه، كما نصت الآية بين العناية باللفظ (يتلو)، وبين تربية المؤمنين عليه (يزكيهم)، وبين تعليم أحكامه (يعلّمهم).

فأي عملية تعليمية تُعنى بحفظ الحروف دون الإفهام وتعليم الأحكام وتزكية النفوس هي عملية تعليمية ناقصة، وقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم ذلك، يقول أبو عبد الرحمن السُّلمي: (أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر حتى يتعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن والعمل به) ويقول ابن عمر رضي الله عنهما: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوَها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإنّ آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به).

ومن خلال التربية يتم البناء الخلقي والسلوكي، وتغرس العادات الإيجابية الحميدة، وتقوّم العادات السيئة وتعالج.

والتربية هي الوسيلة التي تنتج إنسانًا إيجابيًّا فاعلًا، أو إنسانًا اتكاليًّا، فاقدًا للثقة بنفسه، وهي التي تبني الإرادة والعزيمة، أو الكسل والتواكل.

قد تختلف أنماط التربية، ومؤسساتها وأساليبها ولكنها تبقى حاضرة في كل زمان ومكان، فهي أداة تغيير المجتمعات والأفراد، وهي أداة صناعة القادة والرموز.

ورغم انتشار مؤسسات التعليم العالي وكليات التربية في العالم الإسلامي، إلا أن العناية بمنهج القرآن والسنة وبالهدي النبوي أقل مما ينبغي، بل إن معظم أبناء وبنات المسلمين يعرفون عن النظريات والمدراس والرموز النفسية الغربية والشرقية، أكثر مما يعرفونه عن النبي ﷺ (سيرته ومنهجه).  

ومع تنوع مناهج التربية في المدارس والفلسفات فلا غنى للخلق عن منهج خير الناس وأزكاهم وأبرهم وأتقاهم محمد عليه الصلاة والسلام، الذي بعثه الله هاديًا ومزكّيًا.

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾.

الهدي النبوي في التربية ضرورة:

قد يتبادر إلى الذهن سؤال: لماذا الهدي النبوي ضرورة؟

فيما يلي جوانب أهمية الاعتناء بالهدي النبوي:   

  1. العصمة: لقد عصم الله نبيه محمدًا ﷺ عن الزلل والخطأ، فكل ما يقوله أو يفعله فهو حق لا مرية فيه، فقد قال عنه تبارك وتعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى).
  2. نموذج ناجح: يمثل المنهج النبوي التربوي أعظم قصة نجاح بشرية، فهو ليس منهجًا نظريًّا، ولا توجيهات مثالية، إنه منهج واقعي أحدث أعظم تغيير عرفته البشرية، حوّل الأعراب من عبادة الأصنام والأوثان، إلى عبادة الله عزّ وجل وتوحيده، ومن التعلق بالدنيا وأطماعها، إلى طلب مرضاة الله عز وجل، ومن الفرقة والتنازع، إلى الاجتماع والأخوة والتآلف وصناعة الحضارة، وكل ذلك في فترة قصيرة من عمر الزمن. 
  3. الاصطفاء والاستخلاص: اصطفى الله نبيه ﷺ واستخلصه على سائر البشر ليكون نموذجًا بشريًّا كاملًا للاقتداء به. إذ الاقتداء بالنبي ﷺ والتأسي به عبادة وقربة إلى الله عز وجل، وقد اعتنى سلف الأمة باتباع هدي النبي ﷺ والتأسي به في كل أمورهم واحوالهم. فعن سفيان الثوري قال: (إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل).  
  4. كمال الأخلاق: (وإنّك لعلى خلق عظيم).
  5.  الشمولية في المنهج والدعوة: فقد كان المنهج النبوي شاملًا في جوانب تشريعه، للأزمنة والأمكنة والجماعات والأفراد. 
  6.  السير على بصيرة وبيّنة وبرهان: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني).
  7. التجرد، وعدم استغلال الدعوة لمكاسب شخصية: (إن أجري إلا على رب العالمين).
  8.   العناية بالقضية الكبرى التي خلق الخلق لأجلها: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فهي تحقيق العبودية لله، وتخليص القلب والجوارح من الشرك.
  9. الخشية من الله عز وجل وعدم الخشية من الناس: وذلك في سياق تبليغ الرسالة والقيام بالحق.
  10. الصبر وتحمل الأذى في سبيل إيصال الرسالة وتبليغ الدعوة: لقد تلقى النبي ﷺ كثيرًا من أنواع الأذى صابرًا متحملًا ذلك في سبيل تبليغ ونشر دعوة الإسلام.
  11. دوام التزود الإيماني والتعبد لله عز وجل: كان النبي ﷺ مع كمال قربه من الله عزّ وجلّ، وشدّة انشغاله بأمور أمته إلى قيام السّاعة، لا يفتُر عن التزوّد من عبادة الله عزّ وجل، من طول قيام وذكر واستغفار وصلاة ودعاء …إلخ، والتي كانت معينة له على مشاق الدعوة. 

ومن هنا تعظم حاجة المربين إلى التعرّف على هدي النبي ﷺ ومنهجه في التربية والتعليم والتوجيه.

المحضن التربوي في حلقات المساجد:

يعدّ المحضن التربوي في حلقات المساجد أحد الركائز الأساسية في العمل التربوي، الذي يتلقى فيه التلميذ المفاهيم التربوية التي تُعالج فيه أخطاؤه، وتُصحح فيه انحرافاته، وهو البيئة التربوية التي يتمكن المربي فيها من غرس القيم والمفاهيم، ويتعاهد سقيَها ورعايتَها. حتى تكون سلوكا يعتاد عليه الطفل عندما يكبر.

تعلّم الصحابة الإيمان قبل القرآن:

كان الصّحابة رضوان الله عليهم يتعلّمون تعاليم الدّين تدريجيًّا، وكان همّهم تطبيق ما تعلّموه أوّلًا بأوّل، ثمّ ينتقلون إلى أمْر آخر، وكان النّبيّ ﷺ معهم يلاحظهم ويهديهم بالرّفق واللّين، ويأمرهم بعدم التشدّد، فكانوا أئمة هدًى.

يقول جُندب بنُ عبد الله رضي الله عنه “كنّا مع النّبيّ ﷺ ونحن فتيانٌ حزاورةٌ، فتعلّمنا الإيمان قبل أن نتعلّم القرآن، ثمّ تعلّمنا القرآن فازددنا به إيمانًا.” صحيح ابن ماجه

وفي هذا الحديث يقول جُندب بن عبد الله رضي الله عنه: “كنّا مع النّبيّ ﷺ ونحن فتيانٌ حزاورةٌ” جمْع حزْورٍ، والحزْور: الغلام إذا اشتدّ وقوي وخدم، وقارب البلوغ، “فتعلّمْنا الإيمان قبل القرآن”، أي: أنهم تعلّموا أساسيات العقيدة الصحيحة، وهي أركان الإيمان الحقّ؛ وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشرّه، وتعلّموه وهم صغارٌ، “ثمّ تعلّمنا القرآن فازددنا به إيمانًا”، والمعنى: أنّهم لمّا تلوا وقرؤوا كتاب الله وتدارسوه فيما بينهم، ازداد إيمانهم، وقويت عقيدتهم، وهذا معنى قوله عزّ وجلّ: {وإذا تليتْ عليْهمْ آياتُه زادتْهمْ إيمانًا وعلى ربّهمْ يتوكّلون} [الأنفال: 2].

ما المقصود بتعلم الإيمان قبل القرآن:

المقصود به: التربية على أصول الإيمان، وتعلم معانيه، تعلما عمليًّا من النبي ﷺ، وأحواله، وأفعاله، وتلقيًا من سنته، وتعليمه لهم، وتأديبه إياهم بأدب الدين؛ فيتحصل لهم معرفة بمعاني القرآن، الذي يتعلمون ألفاظه بعد ذلك.

فالحاصل؛ أنّ الإيمان قبل القرآن؛ يتحصّل بأن يربّي المؤمن نفسه على العقائد والشرائع التي جاء بها القرآن؛ ويأخذ ذلك بعزيمة وقوة؛ فإذا شرع بعد ذلك في الاستكثار من حفظ آيات القرآن؛ حفظه وهو يشعر أنه مخاطَب بها؛ فيتمعن ويتدبر فيما يحفظ ويخاف أن يكون حجة عليه فيسارع للامتثال بما حفظ.

إن أردنا سلوكًا صحيحًا، واستقامة جادة، وأخلاقاً حسنة، فعلينا بالإيمان، فكلما ازداد الإيمان انصلح القلب، فتحسنت الأفعال.

ولكي يصبح الإيمان راسخًا في القلب ومهيمنًا عليه لابد من ممارسة أسباب زيادته، وتعاهد شجرته حتى تنمو في القلب وتزهر وتثمر ثمارًا طيبة بصورة دائمة.

أو بعبارة أخرى: نحتاج ممارسة «التربية الإيمانية» مع أنفسنا، ومع كل من نتولى أمر تربيته إن أردنا الإصلاح الحقيقي لأنفسنا وأمتنا. 

أهمية الحلقات في المساجد:

مما يثلج الصدر ويملأ القلب فرحة؛ انتشار حلقات التعليم في المساجد، فهي التي تُعنى بتعليم النشء كتاب الله عز وجل تلاوة وفهما وتطبيقا، متخطية الظروف التي تكتنف محيطها …. فتية يأتون إلى المساجد طواعية كل يوم، يحفظون ما تيسر لهم من القرآن الكريم، ويتأدبون بأدبه.

فقد قدّمت الحلقات القرآنية عبر المؤسسات نموذجًا رائعًا في العالم الإسلامي في استنقاذ الأجيال من مخالب الاستعمار الثقافي والفكري، وذلك حين أعادت كتاب الله العزيز إلى اهتمامات الأطفال والشباب.

هذه الحلقات سوف تسهم إلى حد كبير في بناء جيل مؤمن يستهدي بكتاب الله تعالى، ويتسامى فوق الشهوات والمغريات والملهيات والكمائن والحيل التي صنعها له عدو الإسلام، وسوف تكون صمام أمان المجتمعات المسلمة، وسدًّا منيعًا أمام طوفان الشبهات والأفكار.

ومن هنا نقول بيقينٍ: إن معركة الإصلاح والتغيير الحقيقي للأمة روحُها التربية، ولابد أن يتم تطويع جميع الوسائل لخدمة هذا الأمر، فإن تركنا هذه المعركة فسنظل في أماكننا نُراوِح بين أقدامنا، ونشتكي من كثرة المحن والابتلاءات التي تمر بالأمة، وسيعلو صراخُنا ونحيبُنا، وترتفع أيدينا بالدعاء والتضرع إلى الله كلما أصاب المسلمين جرحٌ جديدٌ، وسيعلو صوت الدعاة في الفضائيات وعلى المنابر بأهمية العودة إلى الله، وتغيير ما بالنفس، ثم تهدأ العاصفة ويستقر الجرح في جسد الأمة ويتعوَّدُ على وجوده الجميع، ثم يتكرر الأمر بعد ذلك مع جرحٍ جديدٍ وهكذا …

ختامًا:

يا روّاد الحلقات القرآنية، أروا الله في قرآنه من حلقاتكم خيرًا… وأنتم أهلٌ لذلك.