سؤال يطرح نفسه -وربما يراودنا جميعا- فالقرآن الذي بين أيدينا هو ذاته القرآن الكريم الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم وتقريراته، وسيرته وهديه، كلُّ ذلك محفوظ بين أيدينا في كتب السنة والتاريخ والسير:
فما الذي تغيّر؟
هل كان وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي فترة وجيزة من عمر التاريخ السببَ الوحيدَ في هذا الماضي المجيد؟ حقيقة لو كان وجوده صلى الله عليه وسلم هو السبب الوحيد لتوقف الأمر بعد وفاته، ولمَا كان لرسالة الإسلام أي معنى لأنها رسالة لكافة الناس إلى آخر الزمان. قال سبحانه وتعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّنَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا)
ولم يتغيّر الأمر بزمن الصحابة ومن تبعهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تابعوا المسير وفتحوا البلاد ونشروا دعوة الإسلام، حتى أصبح للإسلام والمسلمين عزّةٌ ومكانةٌ لقرون من الزمن.
إذًا ما الذي تغيّر؟
ما هو السبب والسرّ وراء هذه النهضة؟ ما هو الداء حتى نعالجه؟
إنّ السرّ لدى الجيل الأوّل ومن سار على نهجهم: هو طريقة أخذهم وتعاطيهم للقرآن الكريم والسنة النبوية.
ويتبيّن ذلك في عدة أمور:
أولًا: مرجعية الوحي الإلهي (القرآن والسنّة)
قال سبحانه وتعالى (قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى ۖ وَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ)
لقد كان القرآن الكريم والسنة النبوية المرجعَ الذي كان يأخذ وينهل منه الصحابة رضي الله عنهم، دون خليط أو مزيج من ثقافات أو ديانات أخرى، على الرغم من وجود حضارات سابقة للإسلام (حضارة الإغريق والرومان والفرس في الشام والعراق) محاذية لبلاد الحجاز، بل كانت ديانة النصرانية واليهودية في قلب الجزيرة العربية (النصرانية في نجران اليمن، واليهودية في يثرب الحجاز)، وثقافات وصلت لجزيرة العرب عن طريق التجارة.
وليس كما يصور لنا البعض أن جزيرة العرب كانت في حالة فقر وانعزال عن الثقافات والحضارات الأخرى، أو في حالة اضمحلال حتى تعكف على ديانة الإسلام وحدها دون غيرها، بل عكفت وأخذت من النبع وحده (القرآن والسنة) لكي تخلص النفوس لله وحده عز وجل، وتسير على هديه عليه الصلاة والسلام، دون خليط أو مزيج، مع ثقافات وديانات أخرى.
هذا ما هدانا إليه وأكد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما رأى صحيفة من التوراة في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: أمتهوِّكون أنتم كما تهوَّكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي). رواه أحمد والبيهقي.
جيل خالص القلب والتصور والتكوين عن المؤثرات الخارجية.
ولم يقف الأمر عند المرجعية وحدها بل كان النبع صافياً، وللأسف في زماننا تلوث النبع وأصبحت أغلب المدارس والمناهج التي نستقي منها القيم والأخلاق ودروس التربية فيها الكثير من الفلسفة الغربية، التي تُجعل منها قواعد نلوي بها عنق النصوص لنجعلها إسقاطات، وتطبيقات عملية في حياتنا، جاعلين من أقوال الفلاسفة نهجًا، وتاركين هديَ النبي صلى الله عليه وسلم (الذي جاء معلمًا وهاديًا للبشرية جمعًا)، وسيرتَه العطرة.
الذي تغيّر هو هذا الداء الذي حل بنا، تلوث أسلوبنا في الأخذ من النبع (القرآن والسنة)، ولم يعد يأتينا صافياً كما أخذه الصحابة ومن سار على نهجهم، حتى أصبحنا نشرب الماء الذي يأتي من النبع وفيه العكر والشوائب، مما أثر في حياتنا ونظامنا حتى أصبحت قلوبنا وعقولنا خاوية، وأجسامنا هزيلة.
ثانيًا: أخذ وتطبيق
قال سبحانه وتعالى: (وَقُلِ اعمَلوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُم وَرَسولُهُ وَالمُؤمِنونَ وَسَتُرَدّونَ إِلىٰ عٰلِمِ الغَيبِ وَالشَّهٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلونَ).
كان الصحابة ومن بعدهم يأخذون القرآن والسنة للعبادة والتطبيق، يأخذون القليل بالتدرج حتى يحققوا العمل فيه، لذلك لم يكن من شأنهم أن يزيدوا على عشرة آيات دون عمل، لم يكن قصد الأخذ منهم لأجل التذوق والزاد الثقافي والمعرفي فحسب، بل للعمل والتنفيذ (أمّة عاملة) كان كلما زاد علم الشخص فيهم ازداد عمله وورعه وإقدامه ومسؤوليته، حتى أصبحت عبادتهم عملية يملؤها الإيمان والزهد والتواضع.
الذي تغيّر؛ والداء الذي حلّ بنا أنه صار أخذنا للقرآن والسنة زاداً معرفيّاً لا أكثر يضاف إلى تحصيلنا الثقافي، لقد كثرت الكتب والرسائل منا، وامتلأت بها المكاتب وقلت الأعمال بمضمونها.
اليوم -وللأسف- كلما زاد علم الشخص زاد جدلُه، وقلَّ عملُه، ومال إلى الراحة والرُّتب والأوسمة، حتى أصبح هناك فوارقُ وهوَّة بين المسلمين، واستقرَّ بنا الحالُ أن الذي يُطلَبُ منهُ أنْ يعملَ ويبذلَ الجهدَ هم الطلبةُ والعوامُّ.
ثالثًا: المفاصلة والاستقلالية
كان الذي يدخل الإسلام بزمن الصحابة ومن تبعهم يترك ما كان عليه سابقًا من رواسب معرفية وانتماءات قبلية، ويقبل على دين الإسلام بعهد جديد ناسيًا الماضي كليًّا، وفي عهده الجديد بالإسلام استقلالية ومفاصلة، ويقتصر انخراطهم بغير المسلمين على المعاملة.
الذي تغيّر اليوم تقاربٌ وتعايشٌ باسم التسامح مع الأديان، وما هو إلا ذوبان وانسلاخ عن الدين، فذاب مجاميع المسلمين بالمجتمعات الأخرى، وأصبحت العادات والنظم المخالفة لديننا والحريات غير المنضبطة حاكمةً ومحكّمةً فينا، حتى بتنا نشاهد الانتهاكاتِ للدين، والتنكيلَ بالمسلمين، ونحن جالسون مذعنون مستضعفون لما حلّ بنا من هوان وذلّ. هذه الجرعات من الدواء تعيدنا للنظر في سبب وجودنا، وتعيننا على العمل في طاعة الله عز وجل.